لقد أدركت المؤسسات الاقتصادية الدولية أن للثورة المصرية، والتونسية من قبلها، أصولا فى السياسات الاقتصادية المتبعة، وأنه لا يمكن الخروج بأمان من الفترة الانتقالية إلى نظام سياسى جديد إذا ما استمرت هذه السياسات فى الضغط على جماهير المواطنين وعصيرها. هذا ما حدا بصندوق النقد الدولى مثلا لأن يقدم مساعدة مالية للميزانية العامة المصرية للعام الحالى دون أن يصحبها بأى اشتراطات، من قبيل تخفيض الدعم للسلع الغذائية، أو تقليص حجم التشغبل فى الحكومة.
حتى إن كان الامتناع عن وضع اشتراطات تصحب المساعدة المالية مؤقتا، فإن فيه خروجا جليا عن منظور صندوق النقد الدولى لإدارة المال العام. هذا الخروج ليس منة، وإنما انتزعته انتزاعا الجماهير الغاضبة والمتفائلة فى آن واحد، فى حركتها الثورية منذ الخامس والعشرين من يناير الماضى.
ليس المقصود أن الجماهير انتزعت إلى الأبد حق الحفاظ على كل أشكال الدعم وعلى الحجم المتضخم للتشغيل فى الحكومة، فهذان لا يمكن أن يكونا هدفين لأى سياسة اقتصادية. الحقيقة هى أن هذين ليسا إلا عرضين ونتيجتين لمشكلة اقتصادية أعمق تتمثل فى اقتصاد منخفض الإنتاجية، ضعيف القدرة التنافسية، يدر أجورا ودخولا منخفضة، يعجز عن إنشاء فرص عمل ذات نوعية مقبولة، وتتفاوت فيه الدخول تفاوتا هائلا. أما السياسات المطبقة فى العقدين الماضيين فى مصر، أو فى العقود الثلاثة الماضية فى تونس، فإنها لم تسهم فى حل المشكلة، بل إنها فاقمتها.
المقصود هو أن الحركة الثورية فى مصر أسمعت صوتها وجعلت المؤسسات الاقتصادية فى مركز النظام الدولى تعيد حساباتها، وذلك لأنها فهمت أسباب الثورة وأبعادها. هى تعيدها اليوم مؤقتا، ولكن الفعل المصرى، إذا ما أضيف إليه الفعل فى تونس والاحتجاجات فى غيرها من البلدان النامية والمتقدمة، يكاد يصل إلى مستوى الكتلة الحرجة التى تدفع المؤسسات الاقتصادية الدولية إلى إعادة تحليل الاقتصاد العالمى والعلاقات الاقتصادية الدولية، وإلى إعادة النظر فى مجمل مبادئ السياسات الاقتصادية التى دعت إليها منذ مطلع الثمانينيات من القرن الماضى.